Skip to main content
أحدث المقالات

الحرب العلميّة ..بين مداد العلماء ودماء الشهداء

By مايو 29, 2023أكتوبر 10th, 2023No Comments

ربما تأخر ردنا العسكري على العدو لأسباب عديدة، ولكن الرد الفوري الذي هو في الوقت ذاته الرد الحضاري البعيد الأمد، وهو في مقدورنا جميعاً، فيتمثل في قرار كل مواطن عربي، وكل شاب عربي، وكل معهد عربي، وكل حكومة عربية، بالإقبال المتواصل المنتظم على علوم التقنية “التكنولوجيا” المتقدمة، وخاصة فرعها النووي، كل حسب موقعه، واختصاصه ومجاله بحيث تصبح الأمة العربية كلها مدرسة استيعاب حاشد لعلوم العصر وعلى رأسها المعرفة النووية نظرية وتطبيقاً.
قد يسجل التاريخ يوماً ما إن إسرائيل قد خدمت الحركة العلمية العربية من حيث لا تريد، بل بعكس ما كانت تريد.. فضرب إسرائيل للمفاعل النووي العراقي، أصبحت الحركة العلمية في الوطن العربي، وتيارها ودعاتها ورجالها العاملون بمثابة جبهة أمامية رئيسية في صراع البقاء المفروض على هذه الأمة..
أصبح المخترع والعالم والباحث العربي فدائياً معرضاً لكل ما يتعرض له الفدائي من مخاطر..
وأصبح البحث العلمي في تكنولوجيا العصر وعلمه النووي، عملية فدائية، وجهاداً واستشهاداً في مستوى الحرب القتالية.. واستحق العلماء العرب لأول مرة منذ زمان بعيد المأثور النبوي الكريم في مقارنة مداد العلماء بدماء الشهداء.. وهذا مؤشر تاريخي، عميق الدلالة، نرجو ألا يخفي مغزاه بالنسبة لجميع أهل العلم في الوطن العربي وهم الذين ينتظرون منذ زمن الفرصة التاريخية السانحة لاقتحام أمتهم مسيرة العلم في هذا العصر.
إن البحر العميق يتكون من قطرات صغيرة. وعلينا أن نتعلم كيف نجمع القطرات الصغيرة لنخلق منها بحراً، وكيف نجمع الروافد الجانبية لنصبها في نهر دافق..
وإسرائيل تستطيع أن تنفرد بمفاعل عربي نووي واحد أو اثنين، وتستطيع أن تعرقل اتفاقية نووية معينة بين قطر عربي ودولة أجنبية متقدمة. ولكن ماذا تستطيع أن تفعل لو أصبح عدد المفاعلات النووية في العالم العربي مقارباً لعدد ما فيه من دور للتسلية.. أو لعدد ما فيه من محلات لتفصيل الأزياء أو لبيع أشرطة الفيديو؟!
يبدو ذلك أقرب إلى الحلم؟
نعم.. إذا استمر المسلك العربي العام على ما هو عليه.. ولكن إذا أضاف الاعتداء الإسرائيلي الجديد ألماً جديداً مصحوباً بالوعي إلى آلامنا القديمة وأحياها واستثارها.. فقد يكون بإمكاننا أن نجعل ما هو “أقرب إلى الحلم”..”أقرب إلى الحقيقة”.
لنتأمل في إمكانية “التحولات” التالية في حياتنا وتفكيرنا:
1.أن يتحول القراء العرب من التركيز على قراءة القصص والشعر إلى التركيز على قراءة العلم والتكنولوجيا والذرة.
2. أن يتحول الطلبة الجامعيون العرب من التخصصات النظرية والأدبية إلى التخصصات التقنية الأساسية.
3. أن يتحول الباحثون العرب من كتابة الأدبيات الجمالية المجردة، والموضوعات البعيدة عن ضرورات المرحلة وواقع الأمة، إلى البحث فيما له حميمة بصراعنا الحضاري وأهمية العلم التقني في حياتنا وكيفية استيعابه.
4. أن يكون في مجلاتنا الثقافية وجرائدنا اليومية باب،بل أبواب ثابتة عن العلم والذرة وتطبيقتها بدل أبواب التسلية المبتذلة..
5. أن تتحول برامج التلفزيون والإذاعة من مسلسلات الأوهام والأحلام إلى مسلسلات من نوع جديد عن فعل العلم في حياة الشعوب وكيفية معايشته ومعاناته..
6. أن تقلل مجلات الأطفال عندنا – وهذه قبل غيرها – من الاحتفال بشخصيات جحا والسوبرمان والكاوبوي، وأن تتجه لتقديم شخصيات روائية علمية محترمة أمام الطفل العربي لينشأ وفي طموحه أن يصبح عالماً في مختبر، لا مغامراً في الأدغال..
ثم يبقى على الجامعات العربية، المتزايدة عدداً في الوطن العربي، أن تتحول بعض الشيء من الاهتمام بالأقسام النظرية والأدبية والكلامية، لتضيف قسماً إجبارياً يكون هو محور الاهتمام ويختص بالبحث العلمي التطبيقي المتقدم من أولوياته إلى مستوياته العليا .. مثل هذه الخطوات والمقترحات هل نعجز أيضاً عن الأخذ بها؟ وهل في تنفيذها استحاة لو توفر العزم والوعي؟
إن الانتصارات الكبرى والتحولات العظيمة في حياة الأمم لا تأتي بقرارات فجائية، مهما كانت جريئة وحازمة… إن الانتصارات والتحولات تأتي تعبيراً عن تراكم تاريخي طويل لعمل الأمة في كافة مجالات الحياة الصغيرة والمتواضعة – أو التي تبدو كذلك – وما ينقصنا نحن العرب دائماً هو هذا النوع من العمل اليومي المنظم، الطويل الأمد، الذي يمكن أن يتراكم في وقته الصحيح ليأتي بانتصار كبير..
المهم أن يصبح هذا العمل تقليداً في حياة الأمة، وتياراً مستمراً متنامياً في تطورها.. لا مجرد فورة عابرة كفوراتنا العربية الأخرى..
الذين تألموا للعمل الإسرائيلي، وتألموا أكثر لعدم ردنا الفوري عليه، أدعوهم للتفكير في مثل هذه الخطوات في حياتنا اليومية. وهي خطوات تبدو متواضعة ووئيدة، وتحتاج كي تثمر إلى وقت طويل، ولكنا لو أقدمنا عليها وحولناها إلى تيار فاعل مثمر في حياتنا، لاقترب موعد ردنا العسكري الحاسم على ضرب المفاعل، بل على اغتصاب فلسطين.
غير أنه يتحتم علينا أن ندرك جيداً بأنه لا مجال للرد المباشر على العدو، بدون هذه المسيرة العلمية الطويلة.. أولاً فهذا قانون الحضارة وحتمية التاريخ، ولابد مما ليس منه بد.
بعد ذلك نستطيع أن نزرع في الوطن العربي، بإرادتنا نحن وبقدرتنا نحن، آلاف المفاعلات النووية من الموصل في الشمال إلى الخرطوم في الجنوب، ومن الدار البيضاء في الغرب إلى الدوحة في الشرق.. ولو تحول جميع الإسرائيليين إلى طيارين حربيين لما استطاعوا قصفها كلها ولهلكو قبل بلوغها مجتمعة.
هذه هي الصورة الشمولية للتحدي وللصراع..
والعرب يرون ذلك جيداً.. ولكنهم – للأسف – لا يسيرون في طريق الفعل الواجب، المحتم الطويل الصعب.. ويتلهون بالحلول السهلة العاجلة التي لا توصل إلا إلى كوارث جديدة.. وهذا هو موضوع ألمنا الأكبر.. أكثر من أي عدوان إسرائيلي.
ولقد قلت في البداية إن التاريخ قد يسجل بأن إسرائيل خدمت الحركة العلمية العربية من حيث لا تريد.. ولكن أخشى ما أخشاه أن يضيف التاريخ أيضاً بأن العرب ضيعوا مرة أخرى على أنفسهم فرصة الرد وفرصة الاستفادة من التحدي..
ما أصعب التفاؤل.. وما أحوجنا إليه!