Skip to main content
أحدث المقالات

زيارة باقر الحكيم للسعودية .. مؤشرات تتعدى حدود المعارضة العراقية

By مايو 29, 2023أكتوبر 18th, 2023No Comments

حسناً فعلت المملكة العربية السعودية باستقبالها السيد محمد باقر الحكيم رئيس المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق. وحسناً فعل السيد الحكيم – هو ورفاقه في قيادة المجلس – بقرار الذهاب للرياض ولقاء كبار القادة السعوديين فيها، مجتازاً بذلك اعتبارات وحواجز من مخلفات المرحلة السابقة. وحسناً فعلت جمهورية إيران الإسلامية التي تستضيف المجلس وتدعمه بتفهمها ضرورة القيام بهذه الزيارة التي يمكن اعتبارها “تاريخية” من أوجه عدة، ليس من زاوية تحركات المعارضة العراقية فحسب، وإنما من زاوية العلاقات بين الطوائف الإسلامية على المدى البعيد، ومن زاوية التفاهم السعودي – الإيراني الذي سيظل في تقديرنا أهم احتياج استراتيجي لضمان الأمن والاستقرار في منطقة الخليج، أياً كانت الترتيبات الدولية والإقليمية الأخرى على المدى القريب، خصوصاً بعد الكارثة التي ألحقها العراق بنفسه وبوضعه في المنطقة.
نبدأ أولاً بالنظر في البعد السياسي المباشر للزيارة المتعلقة بتحركات المعارضة العراقية في الوقت الراهن للخروج من مأزق البحث عن “البديل المناسب” للنظام العراقي… البديل المقبول إقليمياً ودولياً بشكل متوازن – نسبياً – بين الأطراف المعنية، والذي كان “غيابه” عشية تحرير الكويت من أهم الأسباب على الأرجح في سرعة إيقاف الحرب وترك النظام العراقي يستجمع أنفاسه في بغداد بعد “العاصفة”. إن هذه الزيارة من رئيس المجلس الأعلى للثورة الإسلامية – بالذات – إلى المملكة العربية السعودية – بالذات – قد تمثل إذا حققت نجاحاً، أول مؤشر على إمكان خروج المعارضة العراقية المجزأة جغرافياً ومذهبياً وقومياً وأثنياً من بوتقاتها والتجزيئية هذه التي انحبست فيها طويلاً، وبتعمد واضح من النظام العراقي ذاته، إلى مشروع سياسي وطني عراقي شامل، يلتقي في إطاره أهل العراق، عربه وأكراده، بصورة تطرح إمكان التغيير في النظام من دون المساس بالكيان وهو الهاجس الذي ما يزال معلقاً على رؤوس جميع من يهمهم عدم فتح الطريق لانهيارات كيانية في دول المنطقة في وقت انهارت فيه كيانان أكبر وأعظم… بحجم الإتحاد السوفيتي.
إذا تولد عن زيارة السيد محمد باقر الحكيم تفاهم أوليين الرموز السياسية في المعارضة العراقية، فإن ذلك سيمثل خطوة مهمة نحو تفاهم مكمل بين الرموز العربية والكردية في هذه المعارضة، بحيث تتوافر مبدئياً ملامح الإطار العام للمشروع السياسي الوطني الشامل الذي تفتقده المعارضة العراقية في اللحظة الراهنة، بل الذي افتقده العراق منذ تبلور السياسات الطائفية للنظام في مطلع الثمانينات في ظل الحرب الطويلة مع إيران ومضاعفاتها وإفرازاتها الداخلية.

هذا فيما يتعلق بالبعد السياسي المباشر للزيارة – الحدث، وهو على أهميته يقتصر على الساحة السياسية العراقية وعلاقتها الإقليمية.
غير أننا نرى في الزيارة بعداً مهماً – أبعد نطاقاً – طالما افتقده العرب والمسلمون في العقود الأخيرة في ما يتعلق بعلاقات الحوار والتفاهم في ما بينهم، وعلى الأخص بين طوائفهم ومذاهبهم الدينية التي تنبع جميعها وتتفرع من الإسلام السمح ومبادئه السامية وتستظل بدوحته الوارفة الشاملة للجميع والحانية على الجميع.
فإن يذهب رجل دين شيعي بارز بالخلفية والمكانة الدينية والسياسية للسيد محمد باقر الحكيم إلى المملكة العربية السعودية، موطن الحرمين الشريفين، ومعقل أهل السنة والجماعة، ويستقبل على أعلى المستويات، أمر يعتبر في حد ذاته علامة إيجابية مشجعة تستحق دعم جميع المسلمين على اختلاف مذاهبهم من أجل العودة إلى ذلك الحوار الإسلامي الصحي الخصب الذي بدأ بين المذاهب الإسلامية خصوصاً بين الطائفتين الإسلاميتين الكبيرتين السنية والشيعية، في منتصف القرن العشرين في مصر، وبرعاية الأزهر الشريف ومشاركة علماء تقاة يمثلون مختلف تلك المذاهب في إطار لجنة “التقريب بين المذاهب الإسلامية” التي حققت بعض التقدم، قبل تجميدها في ما بعد لظروف سياسية، والتي كان من أبرز منجزاتها الفتوى الشهيرة التي أصدرها شيخ الجامع الأزهر عندئذ (1959) المرحوم الشيخ محمود شلتوت بمساواة المذهب الإمامي بالمذاهب الإسلامية الأخرى تفهماً وتقييماً وتدريساً، وكان من نتائجها الانفتاح الفقهي في الدراسات الإسلامية المقارنة التي حققه الأزهر في ذلك الوقت. وإذا كنا لا نتوقع نتائج عاجلة لزيارة السيد الحكيم على هذا الصعيد بالذات – نظراً للطابع السياسي المباشر للزيارة – فإننا نعتقد أن زيارته على المدى المتوسط والبعيد ستبذر بذوراً لمثل هذا الحوار والانفتاح المرتقب بين الأطراف الإسلامية كافة. ولعله من الجدير بالملاحظة إن لقاء خاصاً قد تم ترتيبه بين السيد باقر الحكيم وبين الشيخ محمد بن جبير ووزير العدل السعودي الذي يعتبر عالماً دينياً وشخصية دينية في المملكة بحكم منصبه وبحكم تطبيق المملكة للشريعة الإسلامية في الشؤون العدلية كافة. وقد صرح السيد الحكيم بعد هذه المقابلة أن الحديث دار حول سبل تفادي استغلال الآخرين للخلافات بين المسلمين. وهي إشارة تدل على أن فتح الحوار الإيجابي بين المذاهب الإسلامية كان وارداً في تفكير الرجلين، إذ إن فتح مثل هذا الحوار هو الكفيل بتفادي مثل تلك الخلافات، فضلاً عن تطرقها لإنشاء محكمة عدل إسلامية.
وفي ظل المخططات الإسرائيلية والدولية الأخرى لتقسيم العالم العربي والإسلامي إلى كيانات طائفية متناحرة، كما هو واضح فليس أوجب على العرب والمسلمين من مثل هذه اللقاءات وهذه المحاورات المسؤولية والمتزنة والقائمة على الاحترام المتبادل حيث يحتفظ كل طرف إسلامي باجتهاده ويتفهم في الوقت ذاته اجتهاد إخوته المسلمين من الطوائف الأخرى.
وإذا ما حقق هذا التوجه الجديد في العلاقات الإسلامية – الإسلامية، التقدم المرجو منه، فإنه سيمثل مواجهة فاعلة وموفقة لتيار التجزؤ والتشرذم والصراع العقيم بين الطوائف والمذاهب الإسلامية الذي برز في العقود الأخيرة بسبب تصورات خاطئة بين الأطراف الإسلامية واستغلال القوى المعادية للإسلام لمثل هذه التصورت، خصوصاً في ظل الحرب العقيمة التي جرت بين العراق وإيران لثمان سنين حيث جرت معها إلى المواجهة أطرافاً إسلامية أخرى لم تكن راغبة أصلاً في هذا الانجراف ذي الطابع المذهبي.
وإذا كان المسلمون قد قبلوا بالحوار الإسلامي – المسيحي مع الفاتيكان وغيره من الهيئات الدينية المسيحية، فهل يضلون متخلفين في الحوار الإسلامي – الإسلامي بين ذواتهم؟ ومتى؟ في عصر المتغيرات الدولية والتفاعل العالمي السريع بين مختلف الأفكار والعقائد والحضارات؟ بل يجب أن نتصارح أكثر من ذلك… إذا كان العرب والإسرائيليون يجلسون اليوم إلى طاولات مفاوضات ثنائية ومتعددة مشتركة، هل من الجائز ألا يجلس المسلمون مع بعضهم البعض في حوار مشترك.
إن الأخفاق في ذلك سيتجاوز أي منطق وسيمثل حكماً سلبياً على جميع المسلمين بلا استثناء.
من هنا الأهمية التاريخية في نظرنا لاجتماعات الرياض من هذه الزاوية. وللرياض خبرة وتجارب في محاولات التقريب بين العرب والمسلمين في مجالات وقضايا عديدة بحكم توجهاتها التقاربية والتصالحية بين مختلف الأطراف بما يؤدي إلى سيادة الوئام والتعاون بدل المواجهات المدمرة، سواء كان ذلك في مجال السياسة أو مجال الدين.
هذه سياسة معروفة للمملكة العربية السعودية منذ تأسيسها ولعل الملك فهد بن عبدالعزيز من أبرز القادة في تاريخ المملكة الذين يتصفون بهذه الروح وهذه السياسة التصالحية المرنة كما يؤكد جميع العارفين بتفكيره السياسي وكما تؤكده سياساته ومواقفه.
وإذا كان الملك والمملكة قد نجحا في عقد مؤتمر الطائف بين الأطراف اللبنانية المختلفة ورعايته، بما أدى إلى العهد الجديد الذي نشهده في لبنان العزيز، فليس مستبعداً نجاح الملك والمملكة في عقد ورعاية مؤتمر مماثل تمهيداً لإخراج العراق الشقيق من المأزق الحالي مع الحفاظ على كيانه كبلد عربي مسلم. ولعل لقاءات الرياض الحالية تمثل تمهيداً لمؤتمر سياسي كبير كهذا برعاية المملكة العربية السعودية وسورية وإيران ومشاركة مختلف الفصائل والشخصيات العراقية، بحيث يتاح للعراق أخيراً ما أتيح للبنان من عودة إلى مقومات الاستقرار والسلم والتعمير.

والمؤشرات السياسية التي أحاطت بزيارة السيد الحكيم ووفده للرياض توحي بأن تحركاً سياسياً جدياً على وشك أن يبدأ بهذه الاتجاه، فقد استقبله الملك فهد واستقبله الأمير عبدالله بن عبدالعزيز ولي العهد كما استقبله الأمير سلطان بن عبدالعزيز النائب الثاني لرئيس مجلس الوزراء.
ولعلنا نقرأ بعض مؤشرات “الرسالة” في سطور البيان الذي وزعه المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق، بعد انتهاء زيارة الحكيم للمملكة، حيث ورد فيه أن “الملك فهد رحب بالحكيم في بلده الثاني السعودية… وأعرب عن أمله في أن يلتقيه ثانية في بلدنا الثاني العراق في مستقبل قريب” وذلك ما يشير إلى الدور السياسي المنتظر للسيد الحكيم وكتلته في المستقبل السياسي للعراق. وبالمقابل فإن الحكيم أكد على ضرورة “المحافظة على التركيبة القائمة للشعب العراقي وعدم استثناء أو تجاوز أي منها، بما يشير إلى الاعتراف المتبادل بين مختلف الطوائف من دون تعويض أي طائفة للخطر في حال تغيير النظام وهي مسألة لا شك أنها تدخل في صلب الاهتمامات السعودية.
وقد لوحظ أنه تم “اجتماع مغلق” بين الملك فهد والسيد الحكيم بعد الجلسة الموسعة التي حضرتها شخصيات عراقية من مختلف الاتجاهات. ويكفي أن تلاحظ أن السيد الحكيم رافقته شخصيات عراقية في زيارته للسعودية، التي أنهاها بقوله: “اتفقنا حول جميع الأفكار، وإن الزيارة حققت أهدافها الأساسية”.
وإذا كانت هذا المؤشرات تعكس التقدم الذي حدث بشأن تطوير المشروع الوطني العراقي المتكامل، فإنها تتجاوز في تقديرنا الساحة العراقية إلى الساحة الخليجية الأوسع، وذلك ما سنتناوله بالتحليل في المقالة التالية.